التطورات السياسية والشعبية بشأن قضية فلسطين في أوروبا منذ عملية طوفان الأقصى تعكس التحولات في المواقف الأوروبية تجاه القضية الفلسطينية بعد السابع من أكتوبر 2023. شهدت أوروبا انقسامات واضحة بين الحكومات التي دعمت إسرائيل بشكل مباشر، وبين الحركات الشعبية التي نظمت احتجاجات واسعة تضامنًا مع الفلسطينيين.[1] ورغم استمرار الخطاب الرسمي الأوروبي في التأكيد على حل الدولتين، إلا أن الاستجابة السياسية افتقرت إلى مبادرات دبلوماسية فعالة. في المقابل، تصاعدت الحملات الإعلامية والحقوقية التي انتقدت الانحياز الغربي، مما أدى إلى تغييرات تدريجية في الرأي العام الأوروبي تجاه الصراع الفلسطيني الإسرائيلي.
التطورات السياسية: تعامل أوروبا الرسمي مع عملية طوفان الأقصى
مثل هجوم المقاومة الفلسطينية في معركة طوفان الأقصى يوم السابع من أكتوبر 2023 على أهداف تتبع الاحتلال الإسرائيلي حول قطاع غزة المحاصر تطورا نوعيا مباغتا. سرعان ما تبنت التغطيات الإعلامية في البيئات الأوروبية رواية إيقاع المقاومة الفلسطينية مذبحة مروعة بحق المدنيين الإسرائيليين، وجرى ترویج حکایات ملفقة انكشف لاحقا أنها أخبار مزيفة.[2]
انطلقت موجة تضامن رسمية غير مسبوقة عبر أوروبا مع الجانب الإسرائيلي وتوالت منذ الساعات الأولى للحدث مواقف إدانة شديدة اللهجة في عموم أوروبا لهجوم المقاومة الفلسطينية، مشفوعة بعبارات نمطية تؤكد حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها، مع ميل إلى مزايدات في التعبير عن هذا الموقف من جانب بعض الأطراف. شكلت المواقف السياسية والتغطيات الإعلامية وتعليقات الشخصيات العامة حالة جارفة من التنديد الشديد بعملية طوفان الأقصى مصحوبة بتوفير ذرائع ذات مفعول تبريري للعدوان الواسع الذي شرع جيش الاحتلال في شنه على قطاع غزة في اليوم ذاته.
وعموما، تحاشت معظم المواقف السياسية الأوروبية الإشارة إلى واقع الاحتلال المزمن والحصار المشدد على قطاع غزة، كما توارت الدعوات إلى ضبط النفس، أو أهمية التوصل إلى حل سياسي للصراع، وجاء التذكير بالقانون الدولي خجولا إن حصل، بينما باشرت قلة من السياسيين والشخصيات العامة توجيه النقد أو اللوم إلى الاحتلال الإسرائيلي الذي سارع إلى شن عدوان حربي واسع النطاق على قطاع غزة وقطع موارد الحياة الأساسية عن مليونين وثلث مليون فلسطيني فيه.
وعلاوة على وضع حركة حماس على قائمة الإرهاب الأوروبية في ديسمبر 2001 قام الاتحاد الأوروبي في 19 يناير 2024 بتشديد الحظر والقيود المفروضة سابقا على المقاومة الفلسطينية، فأنشأ إطارا مخصصا للتدابير التقييدية المتعلقة بحركتي حماس والجهاد الإسلامي، على ضوء هجوم السابع من أكتوبر 2023، ولم تصدر أي قيود تذكر نحو الاحتلال الإسرائيلي أو أي من الكيانات والشخصيات ذات الصلة به.[3]
هكذا عبرت أوروبا السياسية عن انحياز واضح إلى الجانب الإسرائيلي، وأظهرت موقفا مناهضا للمقاومة الفلسطينية، وهو سلوك غير مفاجئ قياسا بجولات التصعيد الحربي السابقة، رغم أن حكومة بنيامين نتنياهو كانت قبيل اندلاع هذه الحرب تواجه انزعاجا في الأوساط الأوروبية والغربية على خلفية تشكيلتها العنصرية والفاشية الواضحة، ونزعتها السلطوية التي استهدفت تقليص صلاحيات المؤسسة القضائية الإسرائيلية.
وباستثناء تصريحات صدرت عن وزيرات يساريات في الائتلاف الحكومي الإسبانية من حزبي بوديموس وسومار أحدثت ضجة وقتها؛ امتنعت الدول الأوروبية عموما عن وصف سلوك جيش الاحتلال في قطاع غزة بأنه إبادة جماعية أو جرائم حرب، وتحاشى معظمها نعت جرائم الحرب الإسرائيلية بالفظائع أو الهجمات المروعة أو الأعمال الشنيعة، بينما واصلت وصف هجوم السابع من أكتوبر بأقصى عبارات الاستنكار والتشنيع والتزمت معظم ردود الأفعال الأوروبية الرسمية على جرائم حرب صادمة واعتداءات صارخة معينة اقترفها الجيش الإسرائيلي في قطاع غزة صيغا تعميمية من إظهار الأسى، لكن دون نسبة هذه الانتهاكات الجسيمة بوضوح إلى الجانب الإسرائيلي غالبا، أو أنها عمدت إلى إرفاقها بمقولات تسويغية من قبيل أن المقاومة الفلسطينية تتخذ المدنيين دروعا بشرية، مما ينضوي تحت صياغات الوم الضحية.
محددات المواقف الرسمية الأوروبية
ثمة محددات تسري على الدول الأوروبية عموما، أو الدول الأعضاء منها في الاتحاد الأوروبي على وجه الخصوص، فيما يتعلق بقضية فلسطين عموما وحرب غزة خصوصا، مع ملاحظة أن ثمة محددات أخرى تختص بدول معينة على نحو أوضح، تتمثل هذه المحددات الأساسية في ما يأتي:
- الالتزام المبدئي الراسخ في أوروبا نحو إسرائيل، كما تعبر عنها مقولات، من قبيل ضمان أمن إسرائيل، ورفض أي مساس بدولة إسرائيل أو إنكار حقها في الوجود، علاوة على وفرة تعبيرات الإشادة ومنحها حصانة معنوية من النقد الجاد والمحاسبة.[4]
- الإحجام عن اتخاذ مواقف ذات طابع عقابي صارم بحق الاحتلال الإسرائيلي، بما في ذلك المساس باتفاقيات الشراكة والتعاون، أو فرض خطوات عقابية جادة، وهذا يبقي الفجوة واضحة بين الانتقادات اللفظية المتكررة لبعض الانتهاكات والمواقف العملية المتخذة التي توحي بالتراخي إزاءها.
- نبذ المقاومة الفلسطينية المسلحة واعتبارها إرهابا، واستبعاد صفة التحرر الوطني عنها، وتصنيف حركات المقاومة الفلسطينية الأبرز على قائمة الإرهاب الأوروبية، مع ما يترتب على ذلك من سياسات ومواقف وتدابير .
- توفير مسوغات استباقية لمصلحة الجانب الإسرائيلي في جولات التصعيد العسكري والعدوان الحربي المتعاقبة على قطاع غزة، وبخاصة مقولة حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها، وقد تأتي استدراكات لاحقة من جانب بعض العواصم الأوروبية على هذا الموقف التأسيسي، خصوصا عندما تتجلى جرائم حرب يقترفها جيش الاحتلال بحق المدنيين الفلسطينيين.
- إعلان التمسك بالحل السياسي للقضية الفلسطينية عبر المفاوضات، والثبات على هذا الموقف رغم انسداد الأفق التفاوضي منذ تعثر اتفاقات أوسلو، وتوقف المباحثات ذات الصلة منذ أمد بعيد رغم محاولات إنعاشها أحيانًا.
- اعتبار السلطة الفلسطينية، التي نشأت على أساس اتفاق أوسلو، الشريك المعتمد في الساحة الفلسطينية، والالتزام بأدوار مانحة نحوها، من دون إعفائها من بعض الانتقادات أحيانا.[5]
- إعلان الالتزام بحل الدولتين الذي قررته الرباعية الدولية التي ضمت الأمم المتحدة والولايات المتحدة وروسيا والاتحاد الأوروبي في خريطة طريق السلام سنة 2003، وهذا يعني تأييد التوصل إلى حل سياسي عبر المفاوضات يفضي إلى إقامة دولة فلسطينية مستقلة تعيش في أمن وسلام مع دولة إسرائيل، بحسب ما قررته مرجعية الرباعية. ورغم تقويض الاحتلال الإسرائيلي فرص قيام هذه الدولة؛ فإن المواقف الأوروبية تحرص على إبقاء عنوان حل الدولتين ماثلا في الأفق، مع ملاحظة أن الإقرار بانهيار هذا الوعد السياسي يقوض فكرة الحل السياسي عبر المفاوضات بصفة جوهرية، وقد يوفر حافزًا إضافيًا في الساحة الفلسطينية لاستئناف نهج الكفاح المسلح الذي تخلت السلطة الرسمية الفلسطينية عنه منذ خوضها هذا المسار التفاوضي.[6]
- رفض الاستيطان في الأراضي الفلسطينية المحتلة سنة 1967 بما فيها القدس الشرقية، ورفض تغيير الأمر الواقع ستاتيكو في القدس أو تفكيك التجمعات السكانية الفلسطينية قسرا الذي تعمد سلطات الاحتلال إليه بشكل مطرد في المنطقة (ج) في الضفة الغربية.[7]
- افتقار أوروبا إلى إمكانية صياغة مبادرات مؤثرة أو مواقف متماسكة بشأن قضية فلسطين؛ بسبب ضمور إمكانية التوافق ضمن الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي على ذلك، خصوصًا منذ توسعة الاتحاد شرقا، وتبعا لعدم جاهزية الاتحاد أو عواصم القرار الأوروبي للإقدام على مبادرة مستقلة عن الولايات المتحدة في هذا الصدد. وإن التزمت أوروبا خطوطًا عريضة في مواقفها؛ فإن ذلك لا يقضي بقدرتها على إنجاز تحرّك جماعي نحو قضية فلسطين بصفة مبادرة ومؤثرة ومستقلة عن التوجهات الأمريكية، وسيبقى البديل عن ذلك الخروج ببلاغات من الاتحاد الأوروبي أو بمواقف مشتركة بين عواصم أوروبية معينة بشأن بعض الملفات والتطورات.
- التناغم النسبي مع المواقف الأمريكية بشأن قضية فلسطين، فللوجهة الأمريكية تأثيرها في المواقف الأوروبية أو على فرص تبلورها، وقد تعزز هذا التأثير نسبيا خلال الاستقطاب الغربي الجديد منذ اندلاع الحرب الأوكرانية.[8]
- سلوك الأطراف الإقليمية، العربية والإسلامية، ومواقفها إزاء قضية فلسطين، ويبدو جليا أن صانعي القرار الأوروبي لا يجدون في واقع العمل العربي والإسلامي المشترك أو في مواقف عواصم الإقليم ما يضغط عليهم بشكل ملح لتعديل الوجهة السياسية أو اتخاذ مواقف صارمة من الاحتلال الإسرائيلي؛ حتى خلال حرب الإبادة الجارية في قطاع غزة منذ أكتوبر 2023 في المقابل كان للمواقف العربية الرافضة المسعى تهجير الشعب الفلسطيني من القطاع في سياق هذه الحرب تأثيرها على ما يبدو في المواقف الأوروبية من هذا الملف.
- حقيقة أن أوروبا قد تتأثر ببعض التطورات التي تجري في هذه المنطقة المصنفة جوارًا أوروبيا تجعلها تبدي حرصًا تقليديا على الأمن والاستقرار فيها، وتجلى ذلك في التحركات والاتصالات الأوروبية التي جرت بدءًا من أكتوبر 2023 تحت عنوان منع اتساع نطاق الحرب أو التصعيد.
اتجاهات المواقف بالنسبة للدول الأوروبية
ألمانيا
تعرب برلين عن التزام مغلظ نحو الجانب الإسرائيلي بدعوى الالتزامات المترتبة على الماضي الألماني، وينسحب هذا الموقف على النمسا نسبيا أيضا التي تشترك في السمة ذاتها تقريبا تبعا لماضيها النازي، وللاشتراك مع الجارة الكبرى في فضاء لغوي ثقافي متماثل تقريبا . أظهرت حرب غزة (2024-2023) مدى الانحياز الألماني إلى الجانب الإسرائيلي، بما في ذلك دعمه سياسيا وعسكريا ودعائيا، وكذلك قانونيا بشأن محكمة العدل الدولية ، علاوة على إجراءات وتدابير داخلية ذات طابع مقيد لحرية التعبير المناهض للاحتلال الإسرائيلي، وبرزت ألمانيا ضمن الدول التي رفضت في أروقة الوحدة الأوروبية اتخاذ إجراءات ضاغطة على الجانب الإسرائيلي خلال هذه الحرب، ولم تتجاوب مع نداءات الاعتراف بدولة فلسطين رغم تمسكها بمشروع الدولتين. على أن برلين تتحاشى في الوقت ذاته التورط في نزاعات عسكرية في الخارج، وقد تعزز ذلك بعد خبرة المشاركة المريرة في غزو أفغانستان واحتلالها في عام 2001 ضمن قوات حلف شمال الأطلسي. يلاحظ في هذا الصدد أن ألمانيا لم تتخذ أي خطوة علنية في اتجاه إرسال قوات أو قطع بحرية داعمة للانتشار الأمريكي البريطاني في شرق المتوسط أو البحر الأحمر منذ اندلاع حرب غزة.
فرنسا
أظهرت باريس انحيازا جارفًا للجانب الإسرائيلي في الأيام الأولى من هذه الحرب ثم أجرت تعديلا نسبيا على مواقفها وخطابها مع استثثار الولايات المتحدة بإدارة الموقف الغربي نحو الإقليم، وطول أمد الحرب، وتلاشي إمكانية حسمها سريعا، وتزايد الاعتراضات عليها، وبما يراعي الحرص الفرنسي التقليدي على إظهار تمايز نسبي في بعض المواقف عن الحليف الأمريكي . لم تكن هذه الانعطافة لتطرأ من فراغ، وهي تعبر بالأحرى عن تحولات نسبية في عواصم أوروبية أخرى، وفي المزاج السياسي والجماهيري العام، وإن لم يستجب السلوك السياسي لذلك بوضوح. وعموما؛ عبرت الانعطافة الفرنسية النسبية في المواقف عن تأكل رصيد الدعم الذي حظيت به قيادة بنیامین نتنياهو من شركائها الأوروبيين في بداية هذه الحرب. ويلاحظ أيضا أن قضية فلسطين ذات حضور تقليدي في الشارع الفرنسي من جانب مجموعات ناشطة وقوى يسارية بما فيها الحزب المعارض الصاعد منذ سنة 2022 فرنسا الأبية، علاوة على حقيقة أن فرنسا تضم أكبر كثافة سكانية مسلمة في أوروبا، تقابلها أكبر كثافة يهودية في القارة أيضًا؛ وهذا يمنح الصراع في فلسطين حساسيات خاصة في الداخل الفرنسي وفرصا متزايدة لتأويل نقد الاحتلال على أنه يندرج ضمن كراهية اليهود عموما أو وصمه بـه العداء للسامية، وإن صدر عن ناشطين يهود. وقد رفعت قيود فرضت على التظاهر ضد الاحتلال والحرب في فرنسا خلال شهر أكتوبر 2023 بينما تواصلت الفعاليات الجماهيرية في عموم المدن الفرنسية لتأييد الشعب الفلسطيني.[9]
بريطانيا
برزت في سياق حرب غزة الأصرة التحالفية التقليدية التي تجمع بريطانيا بالولايات المتحدة، وقد تعززت هذه الآصرة منذ خروج المملكة المتحدة من الاتحاد الأوروبي، فانضوت في تحالف أوكوس الثلاثي الأنجلوسكسوني مع الولايات المتحدة وأستراليا (سبتمبر 2022)[10]، وتجلى الأمر أيضًا في السلوك البريطاني الرديف المواقف الإدارة الأمريكية في تطورات حرب أوكرانيا، ثم خلال حرب الإبادة في قطاع غزة (2024-2023) الذي تميز بتماثل نسبي في المواقف، وفي بعض التحركات العسكرية الأمريكية البريطانية في شرق البحر الأبيض المتوسط، وفي تحالف حارس الازدهار المعلن باسم حماية الملاحة البحرية في البحر الأحمر الموجه ضد هجمات إسناد غزة التي تنطلق من اليمن، بما في ذلك توجيه ضربات عسكرية مشتركة لأهداف في العمق اليمني مع ذلك تباين سلوك لندن التصويتي في الهيئات الدولية (مجلس الأمن والجمعية العامة للأمم المتحدة) بشأن وقف إطلاق النار في قطاع غزة، واتضح أكثر في بعض توجهات حكومة كير ستارمر العمالية التي تشكلت في يوليو 2024؛ قياسا بأداء حكومة المحافظين بقيادة رئيس الوزراء ريشي سوناك أما على الصعيد الداخلي فإن وزيرة الداخلية البريطانية عن حزب المحافظين سويلا بريفرمان، المعروفة بانحيازها إلى الجانب الإسرائيلي، حاولت تقييد المظاهرات المؤيدة لفلسطين، وكان لمواقفها التحريضية ضد المتظاهرين أثره في إخراجها من المنصب، خاصة بعد مقالة نشرتها في صحيفة التايمز اللندنية في 8 نوفمبر 2023.
النرويج
ثمة خصوصية لهذا البلد الإسكندنافي في السياق الأوروبي، فهي ليست عضوا في الاتحاد، وتتحرك أحيانًا بدبلوماسية نشطة في المنطقة؛ تأسيسا على دورها في التوصل إلى اتفاق أوسلو (1993)، وسبق أن قامت بمبادرات وتحركات أخذا بعين الاعتبار أنها لا تصنف قوى المقاومة الفلسطينية على قائمة الإرهاب، وليست ملزمة بتصنيفات الاتحاد الأوروبي في هذا الشأن عبرت النرويج عن هذه الخصوصية بشكل نسبي على الأقل في مواقفها وخطابها إزاء تطورات الحرب في غزة، ثم تجلى ذلك في الاعتراف المنسق بدولة فلسطين مع دول أوروبية أخرى في مايو 2024. لكن أوسلو لا تجد بيئة سياسية إسكندنافية أو أوروبية أو غربية داعمة لمبادرات أو وساطات يمكن أن تتعاون معها في الظرف القائم في سياق حرب غزة؛ كما أن الاستقطاب الغربي مع روسيا والصين لا يتيحان أرضية لتحرك دولي ناجز في هذا الصدد، رغم وجود شرکاء محتملين من أوروبا والجنوب العالمي لمثل ذلك تجلى حضور الترويج في المقابل في مواقف جرت ضمن محور أوروبي، يشمل أيضًا إسبانيا وإيرلندا وبلجيكا وسلوفينيا ومالطا، عبر عن مواقف ناقدة لجرائم الحرب الإسرائيلية، وبادر إلى دعم قيام دولة فلسطينية من خلال الاعتراف المنسق بها.
دول وسط أوروبا وشرقها
يبدو منحى الانحياز الواضح إلى الجانب الإسرائيلي واضحا لدى العديد من دول وسط أوروبا وشرقها، فهي تحتفظ بعلاقات وثيقة معه منذ التحول عن العهد الاشتراكي يحلول تسعينيات القرن العشرين، علاوة على أنها تبدو أقرب إلى المواقف الأمريكية في عدد من الملفات. يُضاف إلى ذلك تأثير التوجهات اليمينية المحافظة، المنحازة تقليديا إلى الاحتلال الإسرائيلي، في حكومات بعض دول وسط أوروبا وشرقها، مثل المجر وتشيكيا وبولندا. ومن الجدير بالملاحظة أن العديد من دول وسط أوروبا وشرقها تعترف بالدولة الفلسطينية منذ إعلانها عام 1988، أي قبيل انهيار الكتلة الشرقية ذات التوجه الاشتراكي وتفكيك حلف وارسو، لكن هذا الاعتراف وما استتبعه من تمثيل دبلوماسي رسمي لفلسطين في عواصمها لم يؤثر في مواقفها السياسية اللاحقة إيجابيا.
وتجر العلاقة الخاصة بالولايات المتحدة تأثيرات واضحة في مواقف بعض دول البلقان وأوروبا الشرقية من قضية فلسطين، حتى بالنسبة لدول ذات الأغلبية المسلمة مثل ألبانيا وكوسوفا وبدرجة أقل في حالة البوسنة والهرسك. يتضح ذلك عادة في سلوك بعض هذه الدول التصويتي في الهيئات الدولية.
الدول المتوسطية
للسياسات الخارجية في بعض الدول الأوروبية المتوسطية طبيعة متقلبة، ويظهر ذلك فيما يتعلق بالقضية الفلسطينية أحيانًا وهذا تبعا لألوان الأحزاب المتعاقبة على حكوماتها والأولويات السياسية المتصدرة فيها وبعض المتغيرات ذات الأثر الجيوسياسي. يتضح هذا في حالة إسبانيا وإيطاليا واليونان والشطر الجنوبي من قبرص، ففي إسبانيا، مثلا، ثمة فارق ملحوظ في الوجهة السياسية الخارجية لحكومات اليمين السابقة بزعامة الحزب الشعبي التي انخرطت مثلا في الحرب على العراق سنة 2003، وحكومات يسار الوسط بزعامة الحزب الاشتراكي وحلفائه من اليسار مثل حزبي سومار وبوديموس. أما إيطاليا فشهدت انعطافة واضحة في مواقفها منذ اضمحلال حكومات يسار الوسط الحزب الديمقراطي، وائتلاف شجرة الزيتون، مثلا حكومة رومانو برودي الثانية (2006-2008) التي أظهرت انفتاحًا نسبيا في التعامل مع القضية الفلسطينية، قياسا بحكومات أقصى اليمين اللاحقة التي تتبنى بعض مكوناتها خطابات منحازة بوضوح إلى الجانب الإسرائيلي، وإن أظهرت حركة خمس نجوم مواقف مؤيدة للشعب الفلسطيني. يلاحظ الاتجاه ذاته في كل من اليونان وقبرص أيضا، لكن سياسات أثينا ونيقوسيا مالت إلى تغليب الشراكات التحالفية مع الجانب الإسرائيلي، خاصة بشأن غاز البحر الأبيض المتوسط والتعاون العسكري. وبرز دور قبرص خلال حرب غزة من خلال مشروع الممر المائي المثير للجدل الذي أعلنت عنه الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي بدعوى تقديم المساعدات الإنسانية إلى قطاع غزة، الذي يثير انتقادات لدوره في هندسة سياسة الحصار والتجويع التي يعتمدها الاحتلال الإسرائيلي بدل إنهائها، وأيضًا من خلال تحذيرات حزب الله في لبنان في يوليو 2024 من إمكانية استخدام قواعد قبرصية في توجيه ضربات نحو لبنان إن وقع تصعيد في المنطقة. ورغم الطابع المتقلب السياسات هذه الدول المتوسطية، فإن استقرار الألوان الحزبية في حكوماتها على ما هي عليه يعزز ثبات سياساتها ومواقفها حاليا، كما يتجلى في إيطاليا مثلا التي يحظى فيها أقصى اليمين بعناوينه المتعددة بحظوة قياسية منذ عدة جولات انتخابية من دون توفر بدائل سياسية منافسة له.
دول ذات علاقات خاصة بالاحتلال الإسرائيلي
للعلاقة الخاصة المباشرة بالجانب الإسرائيلي تأثيرها في مواقف بعض الدول الأوروبية وسلوكها مثلا صربيا وأوكرانيا والمجر وتشيكيا والنمسا وأوكرانيا، علاوة على ألمانيا كما تقدم تجلى ذلك في حالة صربيا في حدوث قفزة ملحوظة في إمدادات الأسلحة والذخائر إلى جيش الاحتلال الإسرائيلي خلال حرب غزة (2023-2024)، ويفهم هذا الموقف عادة تبعا لهيمنة التوجهات اليمينية القومية في بلغراد في عهد الرئيس الحالي الكسندر فوتشيش، وبالنظر إلى الإمدادات الإسرائيلية من السلاح إلى القوات الصربية خلال حرب البلقان (1995-1992) رغم الحظر الدولي الذي كان مفروضا وقتها. وأحدثت حكومات اليمين النمساوي خلال السنوات الماضية انعطافة واضحة في مواقف فيينا نحو الانحياز إلى الجانب الإسرائيلي، حتى إن النمسا وتشيكيا صوتنا ضمن عشر دول فقط في العالم منها إسرائيل والولايات المتحدة ودول هامشية ضد وقف إطلاق النار في الجمعية العامة للأمم المتحدة يوم 12 ديسمبر 2024 بينما توزعت مواقف الدول الأخرى الأعضاء في الاتحاد الأوروبي على التأييد أو الامتناع. وفي 27 أكتوبر كانت النمسا وتشيكيا والمجر وكرواتيا ضمن أربع عشرة دولة فقط صوتت ضد وقف إطلاق النار منها إسرائيل والولايات المتحدة ودول هامشية أيضًا. وأوردت تقارير منشورة أن النمسا وتشيكيا حاولتا استمالة الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي لمصلحة موقف يدعم التطهير العرقي للشعب الفلسطيني من قطاع غزة تحت تأثير اتصالات قامت بها حكومة بنيامين نتنياهو مع حكومتي البلدين وقتها. وعبرت مواقف القيادة الأوكرانية ممثلة بالرئيس فلود ومير زيلينسكي، عن حالة انجراف واضحة في تصريحات الانحياز إلى الاحتلال الإسرائيلي، إلى حد تصوير دولة الاحتلال في موقع الضحية، مع إسقاط غزو أوكرانيا بصفة عكسية تقريبا على الواقع في فلسطين.
أزمة الموقف الأوروبي في سياق حرب غزة
تتجلى هذه الأزمة في المظاهر الآتية:
- عجز الدول الأوروبية عن اتخاذ قرارات مشتركة بشأن بعض الشؤون المتصلة بقضية فلسطين، ومنها عدم صدور قرار من الاتحاد الأوروبي يدعم وقف إطلاق النار طوال نصف السنة الأولى من الحرب، رغم محاولة عدد من الدول الأعضاء، مثل إسبانيا وبلجيكا وإيرلندا ومالطا الدفع بقرار في هذا الاتجاه.
- تباين مواقف الدول الأوروبية، ومن ذلك مواقف الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي، في السلوك التصويتي في الهيئات الدولية من تطورات الأحداث، كما تجلى بشأن وقف إطلاق النار.
- غياب المبادرة السياسية عن المواقف الأوروبية المشتركة أو المتفرقة، وتحييد الجهود الدبلوماسية الأوروبية عن التحرك لأجل التهدئة واحتواء الحرب، باستثناء تحركات رامية للحد من التصعيد الإقليمي، على نحو يوافق الأولوية المعلنة للولايات المتحدة الأمريكية في هذا الشأن. ويلاحظ أن أوروبا لم تكن طرفا في جهود الوساطة بشأن التوصل إلى وقف إطلاق النار في قطاع غزة، فقد استأثرت بها الولايات المتحدة بالتعاون مع شركاء إقليميين (مصر وقطر)، رغم أن بعض لقاءات الوسطاء عقدت في عواصم أوروبية مثل باريس وروما.
- بروز استقطابات ومحاور أوروبية، في الموقف من الجانب الإسرائيلي وجرائم حريه، تمثل خطوة الاعتراف المنشقة بالدولة الفلسطينية، أو إبداء الاستعداد المبدئي للقيام بمثل هذه الخطوة تعبيرا جليا عن الكتلة التي تميل إلى إبداء موقف متوازن أو متوازن نسبيا وهي تشمل إسبانيا وإيرلندا وبلجيكا وسلوفينيا ومالطا علاوة على الترويج غير العضو في الاتحاد الأوروبي قياسا بسلوك دول أوروبية أخرى.
- اندفاع دول أوروبية إلى اتخاذ قرارات متسرعة في سياق حرب غزة (2024-2023) بدأت بمواقف ذات طابع عقابي نحو السلطة الفلسطينية في الأيام الأولى للحرب لوحت بوقف تمويلها أو بمراجعته، ثم اتخاذ قرارات عقابية بحق الأونروا تحت تأثير حملة التحريض الإسرائيلية ضد الوكالة التابعة للأمم المتحدة المخصصة لغوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين، مع العدول لاحقا عن هذه القرارات. كشفت هذه المواقف عن غياب الرصانة السياسية عن بعض المواقف الأوروبية من جانب، وعن استسهال معاقبة الجانب الفلسطيني بشكل مباشر أو غير مباشر مقابل الإحجام الواضح عن اتخاذ أي خطوة عقابية جادة بحق الاحتلال الإسرائيلي المزمن أو جيشه الضالع في جرائم حرب أو مستوطناته المخالفة للقانون الدولي على النقيض من ذلك أظهرت أوروبا الموحدة تماسكا استثنائيا في فرض حزم متلاحقة من العقوبات المركبة على روسيا منذ بدء غزو أوكرانيا في فبراير 2022.
- التباين الجسيم في المواقف الرسمية الأوروبية بين الحالتين الأوكرانية والفلسطينية، على نحو أثار جدلا وانتقادات عبر العالم ضمن ما يسمى ازدواجية المعايير عادة، وتجلى ذلك أيضًا في اختلاف النبرة المستخدمة بشأن كل من المقاومة الفلسطينية وجيش الاحتلال أوقع هذا التباين الأطراف الأوروبية في أزمة مصداقية ترقى إلى مصاف المأزق الأخلاقي، حتى إن مفوض السياسات الخارجية الأوروبي جوزيب بوريل حذر في كلمة أمام البرلمان الأوروبي في ستراسبورغ يوم 18 أكتوبر من أن أوروبا قد تفقد سلطتها الأخلاقية في العالم إن أظهرت مواقف متناقضة.
- الانخراط في سلوك استعراضي في الجانب الإنساني بصفة تمنح الانطباع بالتعويض عن ضعف الفاعلية السياسية وغلبة الانحياز إلى الجانب الإسرائيلي، كما تجلى بوضوح في ظهور الاتحاد الأوروبي يوم 8 مارس 2024 شريكا مع الولايات المتحدة ودول أخرى في تدشين الممر البحري لنقل المساعدات الإنسانية من ميناء لارنكا القبرصي إلى قطاع غزة سرعان ما تراجع الاهتمام بهذا الممر المفترض، كما أن الولايات المتحدة التي روجت للرصيف العائم الذي أقامته بالتلازم مع ذلك على ساحل قطاع غزة، عمدت إلى تفكيكه لاحقا في يوليو رغم كلفته الباهظة نسبيا، ولا يزال مصير الممر البحري ودوره يلفهما الغموض.
استنتاجات بشأن المواقف الرسمية الأوروبية وتطوراتها منذ السابع من أكتوبر
- هيمنة الانحياز المستقر: ما يزال الاتجاه الأوروبي العام يتحاشى توجيه لوم جاد إلى الجانب الإسرائيلي فضلا عن اتخاذ إجراءات عقابية ضده، ويرفض اعتبار سلوكه جرائم حرب أو إبادة جماعية أو تطهيرا عرقيا، بينما يضع المقاومة الفلسطينية على قائمة الإرهاب ويتخذ إجراءات بحقها، علاوة على أن بعض الأطراف الأوروبية أظهرت تسرعًا في محاولة فرض عقوبات مالية على السلطة الفلسطينية، ثم باشرت بشكل فوري فرض عقوبات لمدة من الزمن على وكالة الأونروا التي تتبع الأمم المتحدة تحت تأثير التحريض الإسرائيلي.
- محاور في المواقف الأوروبية: إن بدت المواقف الأوروبية جارفة ابتداء في انحيازها إلى الجانب الإسرائيلي، مع استثناءات محدودة، وعمدت إلى توفير دعم ومشروعية الحرب الإبادة والتطهير العرقي التي باشر جيش الاحتلال شنها على قطاع غزة فإن عددًا من الدول الأوروبية حاولت بعد أسابيع من نشوب الحرب دفع الاتحاد الأوروبي إلى اتخاذ موقف مؤيد لوقف إطلاق النار جسدت هذه الدول ما يشبه محورًا داخل أوروبا يحاول إبداء مواقف متوازنة نسبيا إزاء التطورات، ووقفت دول أوروبية أخرى بالمرصاد لهذه المساعي وعطلتها، منها ألمانيا والمجر وتشيكيا والنمسا وكرواتيا وهولندا وإيطاليا، إن وجود دولة واحدة معطلة لتوجه أوروبي مشترك يكفي عادة لتعطيل فرصة الخروج بموقف من الاتحاد الأوروبي في هذا الشأن، وقد مورس ذلك الدور المعطل بالفعل في مرات متعددة من جانب دولة أو أكثر، خاصة المجر المنافحة بشكل دؤوب عن السياسات الإسرائيلية، وهو ما يشير إلى أن اتساع قاعدة التأييد لخطوة معينة من جانب حكومات الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي لا يكفي وحده لإنضاج قرار أوروبي موحد في هذا الشأن.
- سقوط رهانات التهجير: عبر السلوك الإسرائيلي في شهور الحرب الأولى عن نوايا واضحة لتهجير الشعب الفلسطيني من قطاع غزة. قادت المواقف السياسية والشعبية الفلسطينية الصارمة المنددة بمسعى التهجير وكذلك تصدي مصر الرسمي لأي خطوة تهجير باتجاه أراضيها، ومعها مواقف عربية داعمة لذلك إلى إحباط توجهات وخطط إسرائيلية معلنة و/ أو موحى بها في هذا الشأن، ربما كانت أطراف أوروبية على علم بها أو على استعداد محتمل للتعاون معها.
- الآصرة الإسرائيلية الغربية: تصرفت القوى الأوروبية والغربية مع الجانب الإسرائيلي بعد السابع من أكتوبر 2023 على نحو منح الانطباع بارتباط حالة احتلال فلسطين بشكل إستراتيجي عضوي بالنسق الغربي، وأن خسارة حرب غزة و/ أو اتساع رقعتها إقليميا قد تجرّان تداعيات جيوسياسية على التوازنات الإقليمية والعالمية وعلى الحلفاء الغربيين أيضا.
- تأثير الاستقطاب الغربي: تأثرت مواقف عواصم القرار الأوروبي بمظاهر الاستقطاب الإستراتيجي الغربي الذي طرأ بعد نشوب حرب أوكرانيا، وكان للاصطفاف الأوروبي الواضح خلف الإدارة الأمريكية في هذا الاستقطاب مفعوله النسبي في هذا الشأن. تحاول المواقف الأوروبية الانسجام مع الحليف الأمريكي، خاصة في عهد إدارة الرئيس جو بايدن الذي تحاشى الأوروبيون إضعافه على ما يبدو، رغم التباين المرصود في السلوك التصويتي للشركاء الغربيين في الهيئات الدولية وفي بعض التعليقات والمواقف.
- مفعول طول أمد الحرب: واجهت المواقف الأوروبية المنحازة إلى الجانب الإسرائيلي إرباكا واضحًا بسبب طول أمد الحرب التي يشنها جيش الاحتلال على قطاع غزة بدعم غربي، وافتضاح وحشيتها القياسية، وتزايد الاعتراضات العالمية عليه، وعجزه عن حسم الموقف المصالحه في ميدان القتال، وبروز القصور في الإدارة السياسية العسكرية للحرب من الجانب الإسرائيلي، واضطراب تصوراته لما يسمى اليوم التالي في غزة.
- الخشية من اتساع نطاق الحرب: حرصت عواصم القرار الأوروبي منذ بدء الحرب على منع اتساع نطاق المواجهة خارج قطاع غزة، ويمثل طول أمد الحرب عاملا ضاغطا عليها في هذا الاتجاه، خاصة مع احتمالات اشتعال الجبهة اللبنانية الملتهبة إلى حرب مفتوحة، واستمرار التوتر والهجمات قرب السواحل اليمنية وفي منطقة البحر الأحمر، وهواجس دخول إيران الحرب. ويُشار في هذا الصدد إلى التحركات التي قامت بها دول أوروبية في هذا الشأن؛ ولاسيما الجولات الفرنسية في لبنان والمنطقة. في المقابل أحجمت دول أوروبية عن إظهار انخراطها في التحركات العسكرية في البحر الأحمر إلى جانب القوات الأمريكية والبريطانية، ولهذا دلالاته في تحاشي الانزلاق المباشر في توترات المنطقة، وتعريض مصالحها للخطر.
- ضعف فعالية المواقف المتوازنة: أظهرت بعض الدول الأوروبية مواقف تبدو أكثر توازنا من غيرها في الأسرة الأوروبية، لكن مفعولها السياسي العام أو تأثيرها في مجرى حرب الإبادة ظل محدودًا، رفضت هذه الدول الانجراف خلف المواقف العقابية المتسرعة بحق السلطة الفلسطينية التي لوحت بتعليق تمويلها بعد السابع من أكتوبر، وكذلك بحق وكالة الأونروا بعد الادعاءات الإسرائيلية بحقها في نهاية سنة 2023، بينما سارعت دول أوروبية عدة في الحالتين إلى قرارات عقابية متزامنة اتسمت بالتسرع الواضح وتجنب التمحيص، ثم عدلت عن ذلك بعد اتضاح تهافت المزاعم ذات الصلة، يضم هذا المحور إسبانيا وإيرلندا وبلجيكا وسلوفينيا ومالطا علاوة على النرويج غير العضو في الاتحاد الأوروبي، وليس من بينها أي من عواصم القرار الأوروبي الأبرز برزت هذه الدول من خلال التحرك الجماعي المنسق للاعتراف بدولة فلسطين رسميا في مايو ويونيو 2024، علاوة على خطوات ومواقف جريئة نسبيا من جانب هيئات وسلطات فيها، من قبيل نزع الاستثمارات من الاحتلال الإسرائيلي، وفرض قيود على صادرات السلاح إليه أو عبورها عبر موانئها، سددت الاعترافات بدولة فلسطين رسائل ضاغطة على الاحتلال الإسرائيلي وعلى الدول الأوروبية والغربية الأخرى التي تعلن التزامها بمشروع الدولتين دون خطوات عملية جادة تدعمه، لكنها لم تؤد بعد إلى إحداث تغييرات جوهرية ملموسة في وجهة السياسات الخارجية الأوروبية بشأن فلسطين والاحتلال الإسرائيلي، كما لم تدفع باتجاه تحريك مواقف أوروبية مشتركة ذات أثر ملموس من حرب الإبادة الجارية في قطاع غزة.
- آفاق التصرف المعاكس لمصالح الاحتلال: في حال نضوج مواقف أوروبية، متفرقة أو مشتركة، في اتجاه ناقد للجانب الإسرائيلي، فإن ذلك يأتي بخطى متثاقلة مع قصور في الفعالية السياسية، بصفة تركز على أهمية الامتثال لحل الدولتين، واستمرار رفض الاعتراف بالسيادة الإسرائيلية على الأراضي الفلسطينية المحتلة سنة 1967، ومباشرة الاعتراف الرسمي بدولة فلسطين أو اتخاذ خطوات برلمانية تمهيدية لذلك، والتوسع في نقد الاستيطان والتلويح بفرض عقوبات على بعض المستوطنين، لكن مع تحاشي فرض عقوبات جادة على جيش الاحتلال الإسرائيلي أو أي من قادته. كما يتجلى هذا المنحى في إظهار استعداد لعدم عرقلة مقررات المحاكم الدولية بما في ذلك مذكرات التوقيف الصادرة عن المحكمة الجنائية الدولية بحق قادة إسرائيليين، وفي فرض قيود على صادرات السلاح إلى الجانب الإسرائيلي. تشكل هذه المواقف، بشكل أو بآخر، إن جاءت حقا، ضغطاً متزايدًا على الاحتلال الإسرائيلي، ودعما للموقف الفلسطيني، لكنها في جملتها لا تقتدر وحدها على فرض واقع جديد ينهي الاحتلال أو يؤثر بالأخرى في ميدان الحرب المتواصلة على غزة؛ لخلوها أساسا من التوجهات العقابية الرادعة، ولعدم مساسها بوجوه الشراكة والتعاون والإسناد التي يحظى بها الجانب الإسرائيلي من شركائه الأوروبيين بمقتضى اتفاقيات وتعاقدات وتقاليد مستقرة.
تطورات الآراء الشعبية والتفاعلات الجماهيرية
تميزت حرب غزة بدءًا من 7 أكتوبر 2023 عن سابقاتها بأبعاد قياسية في ضراوتها؛ ومؤشرات ضحاياها؛ وفي أمدها الزمني غير المسبوق أيضًا، كما اتسمت هذه الحرب بإسناد معلن متعدد المجالات من جانب القوى الغربية، بما فيها عدد من الدول الأوروبية، جاء مشفوعا بتقديم خطابات تسويغية لجرائم الحرب المرئية للعالم، التي يقترفها جيش الاحتلال الإسرائيلي شجعت هذه التطورات انشغال أوساط شعبية عبر أوروبا والبلدان الغربية بما يجري، خاصة مع تصدر تطورات غزة وفلسطين أولويات المواكبة والتعليق السياسية والإعلامية والشبكية. أتاح هذا الانشغال فرصة استثنائية لتفاعل الجمهور مع قضية فلسطين على ضوء حرب غزة، وحفزت هذه الخبرة المستجدة مراجعة قناعات ومواقف، أو إعادة اكتشاف هذه القضية بالنسبة لأوساط مجتمعية ونخب وقوى وتجمعات، وعبرت استطلاعات رأي عن مؤشرات في هذا الاتجاه في بلدان أوروبية.
ورغم انجراف المنصات السياسية والإعلامية الرئيسة في معظم الدول الأوروبية والغربية في التعبئة والانحياز إلى الجانب الإسرائيلي بعد حدث طوفان الأقصى؛ فإن تفاعل الميادين الأوروبية اتخذ وجهة مغايرة مع خروج مظاهرات عارمة مؤيدة للشعب الفلسطيني في العديد من الدول بدءًا من الأيام الأولى للحرب، قوبل بعضها بتضييق وحظر وإيقاع غرامات مالية واعتقال مشاركين، علاوة على التغطيات الإعلامية السلبية التي واكبت هذه الفعاليات وقياسًا بالأجواء المشحونة التي تحركت فيها المظاهرات خلال الأيام الأولى للحرب، تمكنت الحالة الجماهيرية المتضامنة مع فلسطين بشكل جريء من فرض حضورها بمزيد من الاستمرارية والاتساع عبر البلدان الأوروبية والغربية، خاصة مع توالي المشاهد التي تصور فظائع يقترفها جيش الاحتلال، وتوالي تصريحات صادمة أدلى بها كبار المسؤولين الإسرائيليين عبر بعضها عن منحى فاشي وتوجهات الاقتراف إبادة جماعية، وتطهير عرقي، وجرائم حرب.
باشر عدد من الحكومات والسلطات والمسؤولين والسياسيين في الدول الأوروبية ذم التعبيرات المؤيدة للشعب الفلسطيني وفرضت قيود عليها، وجرى تصنيفها أحيانًا على أنها اعداء للسامية أو تحرض على تدمير إسرائيل أو تنادي بالإبادة الجماعية للشعب اليهودي، مع إجراءات حظر اتخاذ تظاهر أيضًا. كان للتعبئة التحريضية التي تقوم بها الدعاية الإسرائيلية وأذرعها مفعولها في إذكاء الذم والتشهير والترهيب، ومطاردة مواقف مبدئية عبرت عنها شخصيات عامة وتجمعات ناشطة. أما الفعاليات الجماهيرية المؤيدة للاحتلال الإسرائيلي وحربه على غزة، التي أقيمت تحت شعارات من قبيل انقف مع إسرائيل؛ فقد حظي بعضها برعاية رسمية أو شبه رسمية في الدول الأوروبية مع انحياز إعلامي واضح معها غالبا، لكنها بدت ضئيلة في عددها وقدرتها الاستقطابية قياسا بما حظيت به الفعاليات الجماهيرية المؤيدة لفلسطين من زخم هائل نسبيا واستمرارية ملحوظة على مدار شهور الحرب.
تجلت في سياق حرب غزة (2024-2023) فجوة واضحة بين مواقف النخب السياسية ومضامين وسائل الإعلام الأبرز من جانب والمواقف التي عبرت عنها معظم الفعاليات الجماهيرية التي تحركت في الميادين، وكذلك مضامين التداول الشبكي من جانب آخر.
اتضح في غضون ذلك أن التأثيرات المتعددة التي أحرزتها التحركات الجماهيرية والقطاعية والتعبيرات الشبكية والثقافية الناقدة، قوبلت بإعراض وتجاهل من جانب المستوى السياسي وصانعي القرار السياسي الخارجي في العديد من الدول الأوروبية مع استثناءات تتمثل في حكومات تبنت مواقف ناقدة للحرب الإسرائيلية على غزة، مثل إسبانيا وإيرلندا وبلجيكا والنرويج.
تطورات التفاعل الجماهيري في سياق الحرب
تطورت موجة تضامنية عارمة مع فلسطين في المستويات الجماهيرية، وفي التواصل الشبكي عبر مواقع التواصل الاجتماعي، وفي بعض هيئات المجتمع المدني، وعبرت أوساط ونخب عن مواقف جماعية وفردية مضادة للاحتلال والعدوان ومتضامنة مع الشعب الفلسطيني، وظهرت تشكيلات ناشطة جديدة داعمة لفلسطين، أو باشرت مجموعات قائمة إدماج فلسطين في أولويات نشاطها، نحو ما جرى في واقع مجموعات بيئية 30 وطبية وإسعافية وفنية وثقافية.
كما صعدت تعبيرات تأييد النضال الفلسطيني من أجل التحرر من الاحتلال عبر شعارات وهتافات ورموز، فظهرت إلى جانب شعارات الحرية لفلسطين عبارات تنادي بالثورة والانتفاضة والمقاومة، علاوة على الدعوة إلى مقاطعة إسرائيل وشعار من النهر إلى البحر، فلسطين ستكون حرة الذي تحركت في مواجهته حملات تحريض ومساعي حظر وقيود قانونية. يُعد هذا المنحى تطورا ملحوظا في خطابات تأييد الشعب الفلسطيني؛ تجاوز حدود الخطابات التقليدية للتجمعات التضامنية والحقوقية الناشطة خلال ثلاثين سنة خلت بعد إبرام اتفاق أوسلو (1994-1993).
انخرطت جماعات يهودية ناشطة في هذا المشهد التضامني فسجلت حضورا غير مسبوق في دعم الشعب الفلسطيني والتنديد بحرب الإبادة الجارية، ورفعت شعارات تعترض على استغلال ذكرى فظائع النازية في تسويغ حرب الإبادة التي تستهدف الشعب الفلسطيني.
أشكال مستجدة في التعبير والاعتراض
تجلى تطور التفاعل الجماهيري لمصلحة فلسطين في أشكال التحرك والتعبير أيضا، فعلاوة على المظاهرات والتجمعات والنشاطات النمطية التي تواصلت بلا هوادة في العديد من البلدان الأوروبية وحقق بعضها زخما هائلا تميزت فعاليات جماهيرية رديفة بخصائص نوعية في أشكالها ومواقعها ومضامينها، منها نشاطات كبرى أو نموذجية في بعض المدن والمواقع ذات القيمة الرمزية، مثل مقار الاتحاد الأوروبي، ومواقع ذات دلالة رمزية فائقة ترتبط بويلات الحرب والدمار في إقليم الباسك الإسباني مثلا الذي شهد سلسلة من الفعاليات المتميزة في نوعيتها وحجمها وتمثلاتها الرمزية.
وظهرت أنماط من الفعاليات الجماهيرية الجريئة في الاعتراض والتعطيل، من قبيل:
- فعاليات الجلوس أرضًا أو التمدد أرضًا في وضعية موات في الميادين ومرافق عامة مثل محطات القطار والأسواق، برزت هولندا والدول الاسكندنافية في صدارة هذا النمط من الفعاليات، ومن المواقع التي أقيمت فيها محطات قطار حيوية في برلين ولندن أيضًا.
- التظاهر الموجه ضد سلاسل متاجر ومطاعم ومقاه متهمة بالانحياز للاحتلال الإسرائيلي وحرب الإبادة الجارية، وتنظيم اعتصامات أو وقفات مقابلها أو داخلها أحيانا.
- مظاهرات حول مصانع سلاح أو مقار شركات أسلحة متعاقدة مع الاحتلال الإسرائيلي، مع محاولة لتعطيل أعمالها اليومية من خلال ذلك أحيانًا.
- فعاليات مفاجئة في مرافق وفضاءات عامة، مثل مراكز التسوق في أوقات الذروة، خلال موسم عيد الميلاد مثلا، أو داخل وسائل النقل العام.
- مخيمات الاعتصام الجامعية بدءًا من أبريل 2024 التي حققت انتشارا قياسيا حتى نهاية العام الدراسي بعد أن انطلقت التجربة في جامعة كولومبيا الأمريكية في نيويورك، وعمت جامعات النخبة الأمريكية وتمددت منها عبر العالم، مع توقعات باستئنافها من جديد مع بدء العام الجامعي الجديد بدءًا من أكتوبر 2024.
- فعاليات التشويش على نشاطات عامة وكلمات مسؤولين واستضافات شخصيات إسرائيلية أو داعمة للاحتلال الإسرائيلي، جرى بعضها في مرافق برلمانية.
- مطاردة مسؤولين بارزين لدى ظهورهم في الأماكن العامة، ومساءلتهم بتعبيرات لاذعة بحضور التصوير الشبكي، ورفع هتافات تندد بالإبادة وتناصر فلسطين في حضورهم.
- مظاهرات وتجمعات مطالبة بمنع المشاركة الإسرائيلية في مهرجانات ومسابقات ومعارض وفعاليات ثقافية وفنية ورياضية وترويجية بما فيها معارض السلاح .
- تعطيل حركة السير بشكل رمزي، أو فرض إغلاقات قصيرة تنبه إلى خطورة الإبادة الجارية في قطاع غزة.
- فعاليات اعتراضية نظمها موظفون في هيئات حكومية أو إدارات عامة ضمن دول أوروبية أو على مستوى هيئات الاتحاد الأوروبي منها فعالية رمزية نظمها موظفون في الاتحاد الأوروبي يوم 8 مايو 2024 نعوا فيها موت القيم الأوروبية بشأن غزة، أو تحركات نقابية وقطاعية في اتجاه شبيه بما في ذلك أوساط فنية وثقافية.
طابع معولم في التفاعل الجماهيري
لم تأت هذه التفاعلات الجماهيرية معزولة عن سياق غربي خصوصا وعالمي عموما، إذ اتسم هذا التفاعل الجماهيري بطابعه المعولم، كما تجلى من الخصائص الآتية:
- تناقل الخبرات واستنساخ التجارب في أشكال التظاهر والاعتراض بصفة سريعة و متزامنة عبر بيئات عدة.
- التفاعل المتبادل بين ميادين التظاهر حول العالم، كما تجلى مثلا في تضامن مخيمات الاعتصام الجامعية الأوروبية مع نظيرتها الأمريكية.
- اعتماد شعارات وهتافات عابرة للغات والبيئات أو باللغة الإنجليزية أو العربية التي رددتها جماهير متعددة الألسن حول العالم.
- بروز أغان داعمة لفلسطين في الفعاليات الجماهيرية، منها أغنية ليفي باليستينا السويدية المخضرمة، وأغنية دمي فلسطيني العربية، وتمكن هذه الأغاني من العبور عبر الحواجز الثقافية واللغوية.
- بروز رمزيات بصرية معولمة معبرة عن مساندة فلسطين، مثل شريحة البطيخ التي ترمز إلى العلم الفلسطيني، ورمزية أكفان الطفولة المحمولة التي تعبر عن ضحايا الإبادة في قطاع غزة، والطائرة الورقية المستوحاة من نص شعري بالإنجليزية نشره الأكاديمي والأديب الفلسطيني دكتور رفعت العرعير الذي اغتاله جيش الاحتلال في غزة خلال الحرب.
خبرات وتطورات تحفز الحالة الجماهيرية المؤيدة لفلسطين
توفرت لهذه الحالة الجماهيرية المؤيدة للشعب الفلسطيني حوافز، من بينها:
- الوحشية المرئية في سياق الإبادة الجماعية والتطهير العرقي وجرائم الحرب ضد الشعب الفلسطيني في قطاع غزة، فمشاهدها متاحة لعموم الجماهير في البلدان الأوروبية عبر الشبكات والأجهزة المحمولة وبعض وسائل الإعلام تحققت الأوساط معينة حالة معايشة يومية مصوّرة مع الحدث الغزي وتطوراته، علاوة على مفعول مؤشرات القتل والإصابة والتدمير والتجويع الصادمة، واستهداف المنشآت المدنية والأماكن ذات الحرمة الخاصة في قطاع غزة.
- إرث التضامن مع الشعب الفلسطيني وقضيته العادلة وتنامي الوعي بطبيعة الاحتلال وخبرات التفاعل المتراكمة مع حملات العدوان الحربي السابقة، وجولات التصعيد العدواني والاستيطاني السابقة ضد الشعب الفلسطيني.
- تنامي نشاط التجمعات والمؤسسات والقوى والشخصيات الفاعلة في بيئاتها، على تنوع أطيافها، ونشوء تجمعات ومبادرات جديدة ذات حضور في الميدان، بصفة اجترأت ابتداء على تحدي السرديات الداعمة للاحتلال والعدوان والإبادة التي هيمنت على المنصات السياسية والإعلامية الأساسية في أوروبا بعد 7 أكتوبر 2023 رغم سطوة التقييد والتشهير والتحريض.
- التحاق مزيد من القطاعات والأوساط بمشهد التضامن مع فلسطين، بصفة مصحوبة بتنامي الوعي بهذه القضية واكتشاف فظاعة حرب الإبادة التي تستهدف الشعب الفلسطيني في قطاع غزة، واعتبار السياسات الخارجية المنحازة للاحتلال تحديا للقيم والمبادئ الإنسانية والأخلاقية المشتركة، وخذلانا للحقوق والعدالة وكرامة الإنسان.
- المفعول العكسي للتعبئة السياسية والإعلامية الداعمة للاحتلال والعدوان وحرب الإبادة التي نشطت عبر الدول الغربية بعد 7 أكتوبر 2023 ومحاولة تقديم الاحتلال الإسرائيلي وجيشه في موقع الضحية وإكسابه طابعا أخلاقيا. أسهمت هذه التعبئة المضللة في اجتذاب الأنظار إلى فلسطين، وانشغال الجماهير بالأحداث الجارية، ومن ثم اكتشاف تهافت سردية العدوان، واضطراب مواقف داعميه وتناقضاتهم المبدئية والأخلاقية، وتسترهم على الإبادة الجارية.
- الصعود المتزايد للفضاء الشبكي الذي تجاوزت مضامينه المصورة سرديات أحادية تبنتها أبرز المنصات السياسية والإعلامية الغربية، فأتاحت الفرصة لاكتشاف حقائق ووقائع تجاهلتها تلك المنصات، أو بدا أنها حاولت تغييبها عن الشعوب والجماهير، أو باشرت تشويهها وإساءة تأويلها.
- التناقضات الواضحة التي وقعت فيها دعاية الاحتلال وانكشاف زيف رواياتها الساذجة ومزاعمها الملفقة المخصصة لتشويه الشعب الفلسطيني ومقاومته، وادعاء أن جيش الاحتلال هو الأكثر أخلاقية في العالم، ومفعول التعبيرات الصادمة التي صدرت عن قادة الاحتلال التي كشفت نوايا الإبادة الوحشية والتطهير العرقي بحق الأهالي في قطاع غزة علاوة على الممارسات الجارية.
- حضور الشعب الفلسطيني في المشهد بصفة ملهمة في استثارة التفاعل والتعاطف والتضامن، وبروز رمزيات فلسطينية بصفة غير مسبوقة من خلال ذلك مثل موسم غزة المديد فرصة معايشة مفتوحة مع الإنسان الفلسطيني الذي يتجرع واقع الاحتلال والعدوان والإبادة والتجويع، ويعبر عن معان ملهمة في التجلد والصمود والتحدي والتضحية بمواصفات ملحمية الطابع، ويحرك العواطف بمواقف إنسانية عميقة الدلالة من واقع الألم والفقد وصلابة الإرادة، حتى إن اكتشاف الإنسان الفلسطيني حرك تساؤلات ثقافية وقيمية بشأن التصورات المتعلقة بالثقافة العربية والدين الإسلامي وعلاقات الهيمنة مع بعد الاستعمارية أيضًا.
- صعود ثقافة حقوق الإنسان ومرجعية القيم الإنسانية والأخلاقية في وعي أجيال الحاضر في أوروبا، وإحساس بعضها، من ثم بالصدمة لدى اكتشاف ضلوع بعض دولها ومؤسساتها في سياسات ومواقف وتواطؤات يستفيد منها الاحتلال الإسرائيلي في العدوان على الشعب الفلسطيني واقتراف الفظائع.
- نمو خبرات الفعل الجماهيري والعمل المدني والنشاطات الضاغطة عبر العالم بشكل عام، على نحو أتاح فرصا إضافية للتحركات والنشاطات الداعمة للحقوق والعدالة في فلسطين والمناهضة الاحتلال الإسرائيلي وحرب الإبادة التي تستهدف هذا الشعب.
- تأثیر مدارس فكرية وتيارات ناقدة للاستعمار وعلاقات ما بعد الاستعمار، واتجاهات نبذ رموز العهد الاستعماري والفصل العنصري وحملات مراجعة الإبادة الجماعية والعبودية التي عانتها شعوب أصلية ومكونات إثنية معينة، ومنظمات مدافعة عن حقوق الإنسان، وانعكاس ذلك على الوعي بقضية فلسطين كحالة نموذجية تجسد. في الحاضر بعضا من مظالم الماضي.
روافد الحالة الجماهيرية الداعمة لفلسطين والمنددة بحرب الإبادة
تتميز الحالة الجماهيرية العارمة التي برزت بدءًا من أكتوبر 2023 للتضامن مع الشعب الفلسطيني والتنديد بحرب الإبادة الجماعية التي تستهدفه في قطاع غزة بأنها تعبر عن حالة تنوع مجتمعي متعددة الروافد، وإن غلبت على بعض فعالياتها مكونات إثنية معينة أحيانًا. أسهم هذا التنوع في تنويع أشكال التفاعل الجماهيري وطرائق التعبير وفي تحقيق حضور متعدد المستويات نسبيا، لفعاليات التضامن والاعتراض.
فقد برزت نشاطات ومبادرات قامت بها تجمعات فلسطينية وعربية ومسلمة بصفة مستقلة أو بالتعاون والشراكة مع جهات أخرى، خاصة في العواصم والمدن الأوروبية ذات الكثافة الإثنية الفلسطينية والعربية والمسلمة، مع تجاوب من جانب مكونات مجتمعية متعددة مع النداءات التي أطلقتها.
كما تحركت مبادرات ولجان في المجتمع المدني والتجمعات الشبابية، من قبيل ائتلافات التضامن مع فلسطين في عدد من الدول والأقاليم والمدن وحركات المقاطعة ونزع الاستثمارات وفرض العقوبات، ونظمت اتحادات نقابية وفئوية وهيئات قطاعية وأوساط مهنية وثقافية وفنية عددًا من التحركات والمبادرات.
وظهرت تشكيلات شبابية جديدة نسبيا في بعض البيئات حشدت مناصرين لفلسطين من خلفيات إثنية متعددة، وظهرت مبادرات في الميدان من خلال منصات شبكية وحسابات على مواقع التواصل الاجتماعي.
ونشطت تجمعات و تشكيلات يهودية مناهضة للصهيونية و/ أو الاحتلال الإسرائيلي في فعاليات اعتراض جريئة حملت شعارات ليس باسمنا بمشاركة مستقلة أو بالشراكة مع مكونات أخرى.
وتعد حركات العدالة الإثنية المناهضة للعنصرية والتمييز رافدا من روافد المشهد التضامني الجديد مع الشعب الفلسطيني في البلدان الغربية، وإن كان دورها برز في أمريكا الشمالية فإن تأثيرها يمتد بشكل مباشر أو غير مباشر إلى أوروبا والعالم أيضًا.
ورغم غياب معظم الأحزاب السياسية في أوروبا أو حتى تجمعاتها الشبابية عن المظاهرات التضامنية مع الشعب الفلسطيني، فإن أحزابا معينة برزت في المشهد الجماهيري بالدعوة إلى مظاهرات أو المشاركة فيها مع مكونات أخرى أو ظهور متحدثين منها على منصات التظاهر.
وقامت منظمات مدافعة عن حقوق الإنسان أو الطفولة وهيئات نقابية ببعض الفعاليات الجماهيرية أو الرمزية التي تطالب بوقف إطلاق النار فورا.
انعکس اتساع حالة التفاعل الجماهيري وتعددية المكونات والروافد ضمنها بتأثيرات في أنماط الخطاب واتجاهات المواقف خاصة بالنظر إلى مدى جذرية الخطابات المتعلقة بمنشأ الاحتلال ومسعى التحرر الفلسطيني. إذ مالت بعض المواقف من جانب شخصيات عامة وأوساط في المجتمع المدني والحياة السياسية إلى إظهار الاعتراض على بعض جرائم الحرب التي يقترفها جيش الاحتلال، من دون إظهار معارضة واضحة أو صارمة للاحتلال ذاته، بينما حرصت مواقف أخرى على مناهضة الاحتلال مبدئيا، والاعتراض على سياساته واعتداءاته عمومًا. أما فيما يتعلق بإظهار التضامن مع الشعب الفلسطيني فقد مالت خطابات ومواقف إلى استدعاء الفلسطيني الضحية وحسب، بينما عمدت غيرها إلى إظهار التضامن مع الشعب الفلسطيني وإبداء التأييد و/ أو التفهم لنضاله ومقاومته المشروعة للاحتلال؛ أي أن منحى معارضة العدوان والاحتلال أو إبداء التضامن مع الشعب الفلسطيني لا يتخذ نمطا واحدًا في البيئات الأوروبية، ويبدو واضحا أن للتوجهات والقيود والخبرات السائدة في كل بيئة أوروبية أثرها النسبي في بروز أنماط معينة واضمحلال غيرها. وعندما تضيق فرص التعبير عن التنديد بالاحتلال الإسرائيلي وتأييد نضال الشعب الفلسطيني في بعض البيئات الأوروبية قد تلجأ شخصيات عامة وتشكيلات مجتمعية إلى إظهار التعاطف مع الفلسطيني الضحية والمناداة بمطالب معينة مثل وقف إطلاق النار، خاصة عندما تأتي أنباء وصور عن أحداث صادمة وجرائم حرب مروعة، بينما تحرص تشكيلات شبابية ناشطة على كسر دوامة الصمت، وتحدي منحى الترهيب، بإعلاء صوتها في فعاليات اعتراض جريئة نسبيا قياسًا بغيرها.
على أن اتساع القاعدة الجماهيرية التي تتحرك في الميادين لا يقضي من تلقائه باعتبارها ممثلة للوسط المجتمعي العريض عموما أو تحقيق اعتراف واضح بتصدرها في الشواغل والمواقف الشعبية. إن محاولة عزل هذه التحركات وتجاهلها وتشويهها ظل ملحوظا على أي حال في عدد من الدول الأوروبية، خاصة تلك التي تتبنى نخبها السياسية مواقف وخطابات واضحة الانحياز إلى الجانب الإسرائيلي وحربه في قطاع غزة.
ضغط المتغير الجماهيري الداعم لفلسطين
- مثلت تحركات جماهيرية عديدة رصيداً داعما للشعب الفلسطيني ونضاله ضد الاحتلال، وأظهرت التضامن والمساندة للشعب في مواجهة حرب إبادة وتطهير عرقي غير مسبوقة في فظاعتها، وتبقى التحركات الجماهيرية التضامنية رافدا داعما لقضية فلسطين ومشجعًا للشعب الفلسطيني في مساعيه لانتزاع حقوقه.
- لهذه التحركات أثرها في نزع المصداقية عن السرديات السياسية والإعلامية الداعمة للاحتلال وحرب الإبادة التي عبرت عن ذاتها في العديد من الدول الأوروبية مع انطلاق الحرب على غزة، ويشير اتساع التحركات المناهضة للاحتلال إلى اتجاه متعاظم النبذه في أوساط متزايدة في أوروبا وحول العالم.
- من شأن تعاظم التنديد بعدوان الاحتلال على الشعب الفلسطيني وجرائم الحرب التي يقترفها في قطاع غزة أن يمثل متغيرا ضاغطا على السياسات المنحازة إلى الاحتلال وحربه، بصرف النظر عن مدى التجاوب السياسي مع هذا الضغط والاعتراض.
- شكلت الاعتراضات الجماهيرية في مجموعها حالة مساءلة للسياسات والمواقف الداعمة لحرب الإبادة والمتواطئة مع الاحتلال، ويُفترض أنها تسببت بأقدار من الحرج النخب سياسية وصانعي قرار في بعض المواقف، وبعضها يعبر عن جرأة غير مسبوقة في مساءلة السياسات الخارجية وفتح بعض ملفات الماضي.
- شجعت هذه التحركات، ضمن عوامل ومتغيرات أخرى موجة اعتراضات داخلية وأخرى معلنة في بعض الحكومات والوزارات والهيئات والإدارات والمؤسسات على نهج الانحياز للاحتلال وعدوانه على قطاع غزة أو التراخي مع حرب الإبادة الجارية، وحرك نقاشات داخلية وتجاذبات داخل هيئات حكومية ومؤسسات عامة وأخرى إعلامية وثقافية في بلدان أوروبية.
- تنخرط التحركات الجماهيرية في حالة تفاعل متبادل مع مواجهة الاحتلال الإسرائيلي في الهيئات الدولية والتحرك ضده في هيئات التقاضي الدولي بدعاوى الإبادة الجماعية وجرائم الحرب. ويجسد التفاعل الواسع مع الالتماس الذي تقدمت به جنوب إفريقيا لدى محكمة العدل الدولية بشأن الإبادة الجماعية في غزة، وكذلك دعوى نيكاراغوا ضد ألمانيا بتهمة تسهيل الإبادة الجماعية في القطاع أمثلة واضحة على ذلك، حتى إن أعلام جنوب إفريقيا صارت ترفع في المظاهرات الأوروبية علاوة على تنظيم مظاهرات في لاهاي بالتزامن مع انعقاد جلسات المحاكم الدولية.
- فرضت الاعتراضات الجماهيرية على شركات ومصالح وعلامات تجارية إجراء تعديلات معينة أو التحلي ببعض الحساسية والحذر في إبداء مواقف أو إظهار تعبيرات معينة، خشية الظهور في هيئة ضالعة في دعم الاحتلال وتشجيع الإبادة الجماعية وانتهاك حقوق الإنسان في فلسطين.
- رفعت الفعاليات الجماهيرية في جملتها مطالب واضحة، من قبيل دعم حرية الشعب الفلسطيني وإنهاء الاحتلال، ووقف إطلاق النار، وفرض عقوبات على الجانب الإسرائيلي ومقاطعته، ونزع الاستثمارات من مؤسساته وشركاته ومرافقه، وإنهاء إمدادات الأسلحة والمساعدات الموجهة لمصلحته، علاوة على مطالب تفصيلية متعددة، لكن التأثير الجماهيري يستعصي غالبا على تغيير وجهة السياسات الخارجية المعتمدة بالمقارنة مع إمكانية التأثير في سياسات تتعلق بالشؤون المحلية أو الوطنية المباشرة، ويتجلى ذلك في حالة دول منحازة تقليديا إلى الجانب الإسرائيلي.
أدوار الصد والكبح
- لغياب ثقافة التحرر الوطني وخبرة مقاومة الاستعمار عن معظم البيئات الأوروبية أثره في إضعاف فرص التعاطف مع كفاح الشعب الفلسطيني ومقاومته للاحتلال الإسرائيلي، خاصة مع انقطاع خبرة أجيال الحاضر عن زمن تصفية الاستعمار وحركات التحرر والاستقلال، ولما عُد هجوم المقاومة الفلسطيني الجريء يوم 7 أكتوبر 2023 (معركة طوفان الأقصى) حدثاً مؤسساً لحرب غزة (2024-2023) فإن سردية وصم المقاومة بالإرهاب وربط الهجوم بترويع المدنيين، كان لها مفعول جسيم الأثر في بدايات هذه الحرب على فرص الشعوب والجماهير والأوساط المتعددة في التعبير عن مواقف منددة بالاحتلال وحربه، وقد اضطر العديد من أصحاب هذه المواقف، على ما يبدو، إلى دم هجوم المقاومة في 7 أكتوبر كتوطئة نمطية لمواقفهم ضد إبادة الشعب الفلسطيني، في مسعى دفاعي عن أنفسهم على ما يبدو.
- تترصد الخطابات دعم فلسطين ومساندة قضيتها صناعة تشويه وتحريض داعمة للاحتلال و/ أو مرتبطة بدعايته. ومن ذلك أن حرب غزة (2024-2023) شهدت اتساعاً ملحوظا في سلوك الوصم بـه العداء للسامية بحق ناقدي الاحتلال والإبادة الجماعية.
- منحت مواقف و تعليقات سياسية وإدارية معينة في بعض بلدان أوروبا الانطباع بأنها تغلب نظرة الاشتباه الأمني على المظاهرات والفعاليات الجماهيرية المؤيدة لفلسطين، خاصة خلال الشهور الأولى من حرب غزة (2024-2023)، وجرى التعامل في بعض المدن الأوروبية بهاجس أمني واضح من جانب قوات الشرطة أحيانًا.
- حاولت خطابات سياسية وإعلامية معينة تصوير التفاعلات الشعبية والجماهيرية المناهضة للاحتلال الإسرائيلي تصريحا أو تلميحا على أنها محسوبة على الهامش المجتمعي والسياسي أو على مكونات ذات خلفية هجرة ولجوء أو على الفلسطينيين والعرب والمسلمين تحديدا، بصفة تخدم وصم هذه التحركات، وتعزلها عن الوسط المجتمعي العريض، وتسوّغ تجاهل مطالبها، وتسوع عدم الاكتراث برسائلها من جانب صانعي السياسة والنخب المجتمعية المتصدرة والتغطيات الإعلامية المركزية.
- استدعت دعاية الاحتلال الموجهة إلى العالم الغربي مقولات الخطر الإسلامي على أوروبا والغرب بصفة صريحة و/ أو إيحائية، وصورت حرب الإبادة على أنها صراع بين قوى النور والحضارة في مواجهة قوى الظلام والبريرية. كما أن معظم التيارات العنصرية وأحزاب اليمين المتطرف وقوى اليمين المحافظ التي تناهض المسلمين والتنوع الثقافي وتتحامل على طالبي اللجوء تبدي انحيازا جارفا للعدوان على الشعب الفلسطيني، ويتعاظم مفعول هذا الاصطفاف الظاهر بالنظر إلى الرصيد الشعبي العريض الذي يحظى به العديد من الأحزاب اليمينية المتطرفة وقوى اليمين المحافظ في أنحاء أوروبا وبعضها تصدّر الانتخابات في عدد من دول أوروبا خلال حرب غزة (2023-2024) حتى مع وجود مظاهرات عارمة داعمة لفلسطين في الميادين.
مصادر
- ^ "التطورات السياسية والشعبية بشأن قضية فلسطين في أوروبا منذ السابع من أكتوبر 2023".
- ^ ""طوفان الأقصى".. أكبر هجوم للمقاومة الفلسطينية على إسرائيل". مؤرشف من الأصل في 2025-05-27.
- ^ "تفاصيل خطة أوروبية لمواجهة حماس وتجريم التضامن معها". مؤرشف من الأصل في 2024-03-25.
- ^ "فيدان: نتنياهو يتبع سياسة ضمان أمن إسرائيل من خلال إضعاف الآخرين". مؤرشف من الأصل في 2025-04-08.
- ^ "اتفاق أوسلو". مؤرشف من الأصل في 2025-05-11.
- ^ "الأمم المتحدة: مؤتمر حل الدولتين فرصة حاسمة لرسم مسار لا رجعة فيه نحو السلام". مؤرشف من الأصل في 2025-05-24.
- ^ "الاستيطان الإسرائيلي في الأراضي الفلسطينية المحتلة". مؤرشف من الأصل في 2025-04-03.
- ^ "الإدارات الأميركية والقضية الفلسطينية". مؤرشف من الأصل في 2025-04-20.
- ^ "فرنسا تريد إسكات صوت جمعية "طوارئ فلسطين"". مؤرشف من الأصل في 2025-05-11.
- ^ "تحالف "أوكوس" وسر إنشائه.. ما تأثيره على التنين الصيني؟". مؤرشف من الأصل في 2022-10-25.